الموريون في مواجهة عملاء الشيعة بشمال إفريقيا

 الموريون والزيريون

ثار الموريون على الأمويين، وحققوا نصراً عظيماً، قلب أوضاع المشرق والأندلس، ومهد الظروف لالتحاق إفريقية بركب الثورة، لكن أمازيغ إفريقية فضلوا الانتقال من الخضوع للأمويين إلى العمالة للعباسيين ثم الفاطميين، وعملوا جاهدين على إضعاف الإمارات المورية التي نشأت بعد الثورة المورية المجيدة، وفي الوقت الذي أسس فيه الموريون إمارات مستقلة، منها إمارة برغواطة بتامسنا عام 2ⵎ، وإمارة بني مدرار بسجلماسة عام 17ⵎ، وإمارة الأدارسة بوليلي عام 48ⵎ، ارتمى أمازيغ إفريقية في حضن الدولة العباسية، وقد فوتوا على أنفسهم فرصة الانعتاق من التبعية، وفضلوا العمالة والاسترزاق، وهي صفة لازمتهم عبر التاريخ، فزعيمهم مناد بن منقوش أقام الدعوة العباسية، وكان يرجع في أمره إلى الأغالبة الذين حكموا إفريقية باسم العباسيين، قال ابن خلدون: "وذكر بعض مؤرخي المغرب أن مناد بن منقوش ملك جانبي إفريقية والمغرب الأوسط مقيماً لدعوة ابن العباس، وراجعاً إلى أمر الأغالبة" .

وقد ورث عنه ابنه زيري التبيعة والعمالة للمشارقة، وأضاف إلى ذلك عداءه للموريين، إرضاء للفاطميين، وقد عبر ابن خلدون عن ذلك صراحة بقوله: "وكانت بينه وبين مغراوة من زناتة المجاورين من جهة المغرب الأوسط كما نذكر حروب وفتن طويلة، ولما استوسق الملك للشيعة بإفريقية، تحيز إليهم (...) وكان من أعظم أوليائهم، واستطال بهم على عدوه من مغراوة، فكانوا ظهراً له عليهم، وانحرفت لذلك مغراوة وسائر زناتة عن الشيعة سائر أيامهم" .

وقد كان لزيري فضل في تثبيت الحكم الفاطمي بإفريقية، إذ حارب انتفاضة أبي يزيد مخلد بن كيداد اليفرني  التي هددت الوجود الفاطمي بإفريقية، وكادت أن تقضي عليه بشكل نهائي، قال بن خلدون: "ولما كانت فتنة أبي يزيد التاث أمر العبيديين بالقيروان والمهدية، كان لزيري بن مناد منافرة إلى الخوارج أصحاب أبي يزيد وأعقابهم وشريف بالحشود إلى مناصرة العبيديين بالقيروان" .

ومكافأة لجهود زيري، سمح له الفاطميون بسكنى المدن وتحصينها، وولاه الخليفة الفاطمي على قومه، وعقد له على مدينة تاهرت، قال ابن خلدون: "وأحفظ [زيري بن مناد] مدينة واشين [أشير] للتحصن بها سفح الجبل (...) وحصنها بأمر المنصور (...) وعقد له على قومه، وأذن له في اتخاذ القصور والمنازل والحمامات بمدينة أشير، وعقد له على تاهرت وأعمالها" ، وقد استغل زيري علاقته مع الفاطميين لمحاربة زناتة المورية، حتى أنه شارك إلى جانب جوهر الصقلي في حملته الشهيرة على المغرب (218-220ⵎ)، ويؤكد ذلك قول ابن خلدون: "ولم يزل زيري على ذلك قائماً بدعوة العبيديين منابذاً لمغراوة، واتصلت الفتنة فيهم، ولما نهض جوهر الكاتب إلى المغرب الأقصى أيام معد المعز لدين الله، أمره أن يستصحب زيري بن مناد، فصحبه إلى المغرب، وظاهره على أمره" .

كانت حملة جوهر الصقلي كارثة على بلاد الموريين، حشد فيها جيوش إفريقية، وشد عضده بزيري بن مناد، و"نزل على مدينة فاس، وذلك في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فحاصرها، وأدار بها القتال من كل ناحية مدة ثلاثة عشر يوماً حتى دخلها عنوة بالسيف، فقتل بها خلقاً كثيراً، وقبض على أميرها (...) وقتل حماتها وأشياخها، ونهب المدينة، وسبى أهلها، وهدم أسوارها، وكان الحادث بها عظيماً، وكان دخول جوهر إياها ضحوة يوم الخميس الموفى عشرين لشهر رمضان سنة تسع وأربعين وثلاثمائة [220ⵎ]، ثم سار جوهر في بلاد المغرب يقتل أولياء المروانيين، ويفتح البلاد والمعاقل، وفرت أمامه القبائل من زناتة وغيرهم، فأنفذ الأمر بالمغرب ثلاثين شهراً، ثم انصرف إلى مولاه معد بن إسماعيل العبيدي بعد أن دوخ بلاد المغرب، وأثخن فيها، وقتل حماتها" .

وقد كانت هذه الحملة هي آخر حملات الفاطميين المباشرة على بلاد الموريين، وبعدها انتقل الفاطميون إلى مصر، وعينوا بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي على إفريقية، قال ابن عذاري: "لما خرج أبو تميم المعز من إفريقية إلى المشرق، استخلف يوسف المذكور [بلكين بن زيري]، وأمر الكتاب أن يكتبوا إلى العمال وولاة الأشغال بالسمع والطاعة لأبي الفتوح، ورحل أبو تميم إلى مصر، فاحتلها، وأمن أهلها، وبنى القاهرة المعزية نسبة إليه، واتخذها دار ملكه، وبقي أبو الفتوح أميراً على إفريقية والمغرب كله من جهته" ، وقد كان اختيار الفاطميين لبلكين بن زيري والياً على إفريقية لعمالته وصدق تشيعه، كما أخبر بذلك ابن خلدون، بقوله: "لما أخذ المعز في الرحلة إلى المشرق، وصرف اهتمامه إلى من يتخلف وراء ظهره من الممالك والعمالات، ونظر فيمن يوليه أمر إفريقية والمغرب ممن له الغناء والاضطلاع، وبه الوثوق من صدق التشيع ورسوخ القدم في دراية الدولة، فعثر اختياره على بلكين بن زيري بن مناد (...)، فبعث خلف بلكين بن زيري، وكان متوغلاً في المغرب في حروب زناتة، وولاه إفريقية" .

كان بنو زيري مستعدين لفعل كل شيء من أجل الرياسة، وإن كانت من باب العمالة، وهذا بشهادة الأمير عبد الله آخر ملوك بني زيري بغرناطة، الذي استنزله يوسف بن تاشفين بعد مداخلته للمسيحين، قال الأمير عبد الله: "وقد كنا معشر أهل بيت المملكة نرى من آكد ما نتأدب به إعمال السياسة في طلب الرياسة، والسعي لها بكل الوجوه" ، كان بلكين بن زيري مستعداً لتنفيذ شروط الفاطميين في سبيل الرياسة، ومنها إلزامه التنكيل بالأمازيغ، وجباية أموالهم، وغزو بلاد الموريين، وأن يرجع في كل كبيرة وصغيرة إلى أولياء أمره بالقاهرة، وقد أوجز ابن خلدون كل ذلك بقوله: "ولاه [المعز] أمر إفريقية (...) وأوصاه بثلاث: ألا يرفع السيف عن البربر، ولا يرفع الجباية عن أهل البادية، ولا يولي أحداً من أهل بيته، وعهد إليه أن يفتح أمره بغزو المغرب لحسم دائه" ، وفي سبيل الرياسة قبل جميع الشروط، وتخلى عن اسمه الهوياتي بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي، واعتمد الاسم والكنية التي لقبه بهما الخليفة المعز الفاطمي، الذي "سماه يوسف بدلاً من بلكين، وكناه أبو الفتوح، ولقبه سيف الدولة" .

كان بلكين هذا سيفاً فاطمياً شيعياً مسلطاً على رقاب الموريين، ولاه الفاطميون، وأمروه بأن "يفتح أمره بغزو المغرب لحسم دائه" ، فشن الحملات، ووالى الغارات، فوطئت جيوشه فاس، وخربت البصرة، قال ابن عذاري: "دخل أبو الفتوح صاحب إفريقية من قبل العزيز بالله بلاد الغرب، واستولى عليها، وهدم مدينة البصرة، ومحا رسمها بعد طول مدتها وكثرة عمارتها، وكان رحيل أبي الفتوح من إفريقية إلى المغرب يوم الأربعاء لخمس بقين من شعبان من سنة ثمان وستين وثلاث مئة، فوصل بجيوشه الضخمة إلى فاس، فاستولى عليها، وملك سجلماسة وبلاد الهبط (...) ثم رحل إلى سبتة في طلب من لجأ إليها من زناتة، فلما أشرف عليها تأمل الوصول إليها، فرأى تحصينها ومنعتها ما لايستطاع إدراكه إلا بالمراكب البحرية، فرجع عنها ولم يعوزه من بلاد المغرب غيرها" .

 ثم اتجه إلى تامسنا، فنازل برغواطة، وقتل أميرها، وسبى أهلها، قال ابن عذاري: "ولما خرب أبو الفتوح يوسف بن زيري الصنهاجي أمير إفريقية مدينة البصرة، رحل بعساكره إلى بلد برغواطة، وكان ملكهم صالح بن عيسى بن أبي الأنصار (...)، فغزاهم أبو الفتوح، فكانت بينهم حروب لم يجر قبلها مثلها، كان الظفر فيها لأبي الفتوح، وقتل الله الكافر ابن عيسى، وانهزمت عساكر برغواطة، فقتلوا قتلاً ذريعاً، وسبي من نسائهم وذراريهم ما لا يحصى عددهم، وأرسل أبو الفتوح سبيهم إلى إفريقية، فلقيهم عامله عبد الله الكاتب مع أهل القيروان والمنصورية" ، وفي سنة إحدى وسبعين وثلا مئة، دخل سبي البرغواطيين إلى المنصورية يوم السبت لثمان خلون من ربيع الأول، فرأى أهل إفريقية من السبي ما لم يره أحد منهم لكثرته، وطيف بهم في المنصورية والقيروان"  ، وبعد بعث بلكين بالسبي من النساء والذراري إلى إفريقية، "أقام بالمغرب يردد الغزو فيهم إلى سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، وانصرف من المغرب، فهلك في طريقه إلى القيروان" ، وكانت وفاته "سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة بواركش ما بين سجلماسة وتلمسان منصرفاً من هذه الغارة الطويلة" .

استغرقت حملة بلكين بن زيري خمس سنوات (239-243ⵎ)، أفزعت الموريين فزعاً عظيماً، "فأجفل قدامه ملوك زناتة، وأرزوا بقياطينهم إلى حائط سبتة، وفيهم يدو بن يعلى، وابني عطية، وغيرهم من ملوك بني خزر، ويحيى بن علي صاحب البصرة، كل مذكور من زناتة، وهم جموع عظيمة، وقد رهبوا بلقين أشد رهبة مع علمهم أنه في ستة آلاف فارس لا زيادة" ، ولا شك أن هذه الحملة جاءت بغرض إخضاع الرقاب، وجمع الأموال والسبايا، نزولاً عند وصية الخليفة الفاطمي الذي أوصاه: "أن لا يرفع السيف عن البربر، ولا يرفع الجباية عن أهل البادية" .

وهكذا جبى أموال إفريقية في سنتي 237-238ⵎ ، قال ابن عذاري: "وفي هذه السنة [237ⵎ ] نادى عامل إفريقية والقيروان وهو عبد الله الكاتب، فاجتمع الناس إليه، فأخذ من أعيانهم نحو الست مئة رجل، وأغرمهم الأموال بالتعيين، يأخذ من الرجل الواحد عشرة آلاف دينار من الأخر ديناراً واحداً، فاجتمع له بالقيروان أموال كثيرة، وعم هذا الغرم سائر أعمال إفريقية، ما عدا الفقهاء والصلحاء والأدباء وأولياء السلطان، وكان الذي جبى من القيروان نيفاً على أربع مئة ألف دينار عيناً، وبقي الأمر كذلك في الطلب إلى أن وصل الأمر من مصر إلى أبي الفتوح برفع الغرم عن الناس، فأطلقهم عبد الله الكاتب في أواخر شوال، وفي سنة سبع وستين وثلاث مئة، بعث عبد الله الكاتب عامل إفريقية هذا المال إلى ملك مصر العزيز بالله" ، وبعد جباية إفريقية لفائدة الفاطميين توجه بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي إلى بلاد الموريين سنة 239ⵎ، فسبى، وجبى، وجمع الأموال، وبعثها إلى ولي نعمته بمصر.

جاءت حملة بلكين في سياق تاريخي دقيق، تميز بضعف الإمارات التي نشأت بعد الثورة المورية، وبظهور زناتة على مسرح الأحداث بالعدوة والأندلس؛ إذ اعتمد حكام الأندلس على العنصر الزناتي، وأقصوا العرب جملة، ذكر المقري أنه: "لما أوقع عبد الرحمن باليمانية الذين خرجوا في طلب ثأر رئيسهم أبي الصباح اليحصبي وأكثر فيهم القتل، استوحش من العرب قاطبة، وعلم أنهم على دَغل وحقد، فانحرف عنهم إلى اتخاذ الممالك، فوضع يده في الابتياع، فابتاع موالي الناس بكل ناحية، واعتضد أيضاً بالبربر، ووجه عنهم إلى بر العدوة، فأحسن لمن وفد عليه إحساناً رغب من خلفه في المتابعة، قال ابن حيان: واستكثر منهم ومن العبيد، فاتخذ أربعين ألف رجل، وصار بهم غالباً على أهل الأندلس من العرب، فاستقامت مملكته وتوطدت" .

وبذلك، أصبحت زناتة المورية هي مالكة زمام الحكم في الأندلس، ولما تأسست الخلافة، واشتد عودها زمن حكم عبد الرحمن الناصر (173-221ⵎ)، عبرت زناتة لإخضاع الإمارات المورية، وواجهت جيوش عملاء الفاطميين، وفي هذا السياق، انبرى زيري بن عطية المغراوي الزناتي لحربهم، وقد تزامن ذلك مع نهاية حملة بلكين بن زيري على الإمارات المورية، وبداية ولاية ابنه المنصور بن بلكين، الذي عقد لأخيه يطوفت على أشير، وبعثه لحرب زناتة، قال ابن خلدون متحدثاً عن المنصور بن بلكين: "وعقد لأخيه أبي البهار على تاهرت، ولأخيه يطوفت على أشير، وسرحه بالعساكر إلى المغرب الأقصى سنة أربع وسبعين وثلائمائة يسترجعه من أيدي زناتة، وقد بلغه أنهم ملكوا سجلماسة وفاس" .

وفي هذه الأثناء كانت زناتة قد أجمعت أمرها، والتفت حول قادتها زيري بن عطية المغراوي، وابن خزرون، ويدر بن يعلى، وعبأت نفسها لمواجهة صنهاجة إفريقية لتفادي تكرار فاجعة 239ⵎ، التي أوغل فيها بلكين في بلاد الموريين، فقتل، وسبى، وجبى، وانصرف غانماً، وترك زناتة أذلة مشردين، لذلك "لما أحس [زيري بن عطية المغراوي] بوفادة يطوفت بن أبي الفتوح، عاجل بالخروج إليه، والهجوم عليه، فقاتله قتالاً شديداً، حتى انهزم يطوفت، وظفرت زناتة بصنهاجة، فاتبعوهم، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأسروا آخرين، وهرب الباقون إلى تيهرت" ، وبعد هذه المعركة الفاصلة التي انتصرت فيها زناتة المورية على صنهاجة إفريقية، "أقصي المنصور بعدها عن غزو المغرب وزناتة، واستقل به ابن عطية، وابن خزرون، ويدر بن يعلى" .

ما نخلص إليه هو أن باقي سكان شمال إفريقيا لهم استعداد للخضوع والعمالة، خضعوا للأمويين ثم العباسيين، وكانوا عملاء أوفياء للفاطميين في مواجهة الموريين ببلاد العدوة والأندلس، هذا واقع تاريخي ما يزال مستمراً في حاضرنا.

كاتب المقال: الدكتور عبد الخالق كلاب


إرسال تعليق

أحدث أقدم